الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **
الجزء السابع بسم اللَّه الرحمن الرحيم 1 - عن عمر بن الخطاب: (أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طلق حفصة ثم راجعها). - رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وهو لأحمد من حديث عاصم بن عمر. 2 - وعن لقيط بن صبرة قال: (قلت يا رسول اللّه إن لي امرأة فذكر من بذائها قال: طلقها قلت إن لها صحبة وولداً قال: مرها أو قل لها فإن يكن فيها خير ستفعل ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك). - رواه أحمد وأبو داود. 3 - وعن ثوبان قال: (قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة). - رواه الخمسة إلا النسائي. 4 - وعن ابن عمر: (عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: أبغض الحلال إلى اللّه عز وجل الطلاق). - رواه أبو داود وابن ماجه. 5 - وعن ابن عمر قال: (كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا عبد اللّه بن عمر طلق امرأتك). - رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. - حديث عمر بن الخطاب سكت عنه أبو داود والمنذري وحديث لقيط أخرجه أيضاً البيهقي ورجاله رجال الصحيح. وحديث ثوبان حسنه الترمذي وذكر أن بعضهم لم يرفعه. وحديث ابن عمر الأول أخرجه أيضاً الحاكم وصححه ورواه أيضاً أبو داود وفي إسناد أبي داود يحيى بن سليم وفيه مقال والبيهقي مرسلاً ليس فيه ابن عمر ورجح أبو حاتم والدارقطني والبيهقي المرسل وفي إسناده عبيد اللّه بن الوليد الوصافي وهو ضعيف ولكنه قد تابعه معرف بن واصل ورواه الدارقطني عن معاذ بلفظ: (ما خلق اللّه شيئاً أبغض إليه من الطلاق) قال الحافظ: وإسناده ضعيف ومنقطع. وأخرج ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي موسى مرفوعاً: (ما بال أحدكم يلعب بحدود اللّه يقول قد طلقت قد راجعت) وحديث ابن عمر الثاني قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح إنما نعرفه من حديث ابن أبي ذئب انتهى. قوله: (طلق حفصة) قال في الفتح: الطلاق في اللغة حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك وفلان طلق اليد بالخير أي كثير البذل وفي الشرع حل عقدة التزويج فقط وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره وطلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام وبفتحها أيضاً وهو أفصح وطلقت أيضاً بضم أوله وكسر اللام الثقيلة فإن خففت فهي خاص بالولادة والمضارع فيهما بضم اللام والمصدر في الولادة طلقاً ساكنة اللام فهي طالق فيهما ثم الطلاق قد يكون حراماً ومكروهاً وواجباً ومندوباً وجائزاً أما الأول ففيما إذا كان بدعياً وله صور. وأما الثاني ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال. وأما الثالث ففي صور منها الشقاق إذا رأى ذلك الحكمان. وأما الرابع ففيما إذا كانت غير عفيفة. وأما الخامس فنفاه النووي وصوره غيره بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع فقد صرح الإمام أن الطلاق في هذه الصورة لا يكره انتهى. وفي حديث عمر هذا دليل على أن الطلاق يجوز للزوج من دون كراهة لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما يفعل ما كان جائزاً من غير كراهة ولا يعارض هذا حديث: (أبغض الحلال إلى اللّه) الخ لأن كونه أبغض الحلال لا يستلزم أن يكون مكروهاً كراهة أصولية. قوله: (طلقها) فيه أنه يحسن طلاق من كانت بذية اللسان ويجوز إمساكها ولا يحل ضربها كضرب الأمة وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: (فحرام عليها رائحة الجنة) فيه دليل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها محرم عليها تحريماً شديداً لأن من لم يرح رائحة الجنة غير داخل لها أبداً وكفى بذنب يبلغ بصاحبه إلى ذلك المبلغ منادياً على فظاعته وشدته. قوله: (أبغض الحلال إلى اللّه) الخ فيه دليل على أن ليس كل حلال محبوباً بل ينقسم إلى ما هو محبوب وإلى ما هو مبغوض. قوله: (طلق امرأتك) دليل صريح يقتضي أنه يجب على الرجل إذا أمره أبوه بطلاق زوجته أن يطلقها وإن كان يحبها فليس ذلك عذراً له في الإمساك ويلحق بالأب الأم لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد بين أن لها من الحق على الولد ما يزيد على حق الأب كما في حديث: (من أبر يا رسول اللّه فقال أمك ثم سأله فقال أمك ثم سأله فقال أمك وأباك) وحديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) وغير ذلك.
1 - عن ابن عمر: (أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً). - رواه الجماعة إلا البخاري. وفي رواية عنه: (أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فتغيظ فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر اللّه تعالى) وفي لفظ: (فتلك العدة التي أمر اللّه أن يطلق لها النساء) رواه الجماعة إلا الترمذي فإن له منه إلى الأمر بالرجعة. ولمسلم والنسائي نحوه وفي آخره قال ابن عمر (وقرأ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي رواية متفق عليها: (وكان عبد اللّه طلق تطليقة فحسبت من طلاقها. وفي رواية: (كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم أما إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمرني بهذا وإن كنت طلقت ثلاثاً فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجاً غيرك وعصيت اللّه عز وجل فيما أمرك به من طلاق امرأتك) رواه أحمد ومسلم والنسائي. وفي رواية: (أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة فانطلق عمر فأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: مر عبد اللّه فليراجعها فإذا اغتسلت فليتركها حتى تحيض فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وإن شاء أن يمسكها فليمسكها فإنها العدة التي أمر اللّه أن يطلق لها النساء) رواه الدارقطني وفيه تنبيه على تحريم الوطء والطلاق قبل الغسل. 2 - وعن عكرمة قال: (قال ابن عباس: الطلاق على أربعة أوجه وجهان حلال ووجهان حرام فأما اللذان هما حلال فأن يطلق الرجل امرأته طاهراً من غير جماع أو يطلقها حاملاً مستبيناً حملها وأما اللذان هما حرام فأن يطلقها حائضاً أو يطلقها عند الجماع لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا). - رواه الدارقطني. - قوله: (طلق امرأته) اسمها آمنة بنت غفار كما حكاه جماعة منهم النووي وابن باطش. وغفار بكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء وفي مسند أحمد أن اسمها النوار. قوله: (وهي حائض) في رواية: (وهي في دمها حائض) وفي أخرى للبيهقي: (أنه طلقها في حيضها). قوله: (فذكر ذلك عمر) قال ابن العربي: سؤال عمر محتمل لأن يكون ذلك لكونهم لم يروا قبلها مثلها فسأله ليعلم ويحتمل أن يكون لما رأى في القرآن {فطلقوهن لعدتهن} ويحتمل أن يكون سمع من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم النهي فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك. قوله: (مره فليراجعها) قال ابن دقيق العيد: يتعلق بذلك مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أو لا فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لعمر مره والمسألة معروفة في كتب الأصول والخلاف فيها مشهور. وقد ذكر الحافظ في الفتح أن من مثل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالط فإن القرينة واضحة في أن عمر في هذه الكائنة كان مأموراً بالتبليغ ولهذا وقع في رواية أيوب عن نافع فأمره أن يراجعها إلى آخر كلام صاحب الفتح. وظاهر الأمر الوجوب فتكون مراجعة من طلقها زوجها على تلك الصفة واجبة وقد ذهب إلى ذلك مالك وأحمد في رواية والمشهور عنه وهو قول الجمهور الاستحباب فقط قال في الفتح: واحتجوا بأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك لكن صحح صاحب الهداية من الحنفية أنها واجبة والحجة لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها ولأن الطلاق لما كان محرماً في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زفر وحكى ابن بطال وغيره الاتفاق إذا انقضت العدة أنه لا رجعة والاتفاق أيضاً على أنه إذا طلقها في طهر قد مسها فيه لم يؤمر بالمراجعة وتعقب الحافظ ذلك بثبوت الخلاف فيه كما حكاه الحناطي من الشافعية وجهاً. قوله: (ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً) ظاهره جواز الطلاق حال الطهر ولو كان هو الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها وبه قال أبو حنيفة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين عن الشافعية وذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه والشافعية في الوجه الآخر وأبو يوسف ومحمد إلى المنع وحكاه صاحب البحر عن القاسمية وأبي حنيفة وأصحابه وفيه نظر فإن الذي في كتب الحنفية هو ما ذكرناه من الجواز عن أبي حنيفة والمنع عن أبي يوسف ومحمد واستدل القائلون بالجواز بظاهر الحديث وبأن المنع إنما كان لأجل الحيض فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز الطلاق في ذلك الطهر كما يجوز في غيره من الأطهار واستدل المانعون بما في الرواية الثانية من حديث الباب المذكور بلفظ: (ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر) الخ وكذلك قوله في الرواية الأخرى: (مر عبد اللّه فليراجعها فإذا اغتسلت) الخ. قوله: (فتغيظ) قال ابن دقيق العيد: تغيظ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهراً فكان مقتضى الحال التثبت في ذلك أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في ذلك إذا عزم عليه. قوله: (ثم يمسكها) أي يستمر بها في عصمته حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر. وفي رواية للبخاري: (ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت فليطلقها) قال الشافعي: غير نافع إنما روى: (حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلق) رواه يونس ابن جبير وابن سيرين وسالم. قال الحافظ: وهو كما قال لكن رواية الزهري عن سالم موافقة لرواية نافع وقد نبه على ذلك أبو داود والزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما إذا كان حافظاً. وقد اختلف في الحكمة في الأمر بالإمساك كذلك فقال الشافعي: يحتمل أن يكون أراد بذلك أي بما في رواية نافع أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إما بحمل أو بحيض أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع أو ليرغب في الحمل إذا انكشفت حاملاً فيمسكها لأجله. وقيل في الحكمة في ذلك أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق فإذا أمسكها زماناً يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة لأنه قد يطول مقامه معها فيجامعها فيذهب ما في نفسه فيمسكها. قوله: (قبل أن يمسها) استدل بذلك على أن الطلاق في طهر جامع فيه حرام وبه صرح الجمهور وهل يجبر على الرجعة إذا طلقها في طهر وطئها فيه كما يجبر إذا طلقها حائضاً قال بذلك بعض المالكية والمشهور عندهم الإجبار إذا طلق في الحيض لا إذا طلق في طهر وطئ فيه وقال داود يجبر إذا طلقها حائضاً نفساء قال في الفتح: واختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهراً هل المراد انقطاع الدم أو التطهر بالغسل على قولين وهما روايتان عن أحمد والراجح الثاني لما أخرجه النسائي بلفظ: (مر عبد اللّه فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وإن شاء أن يمسكها فليمسكها) وهذا مفسر لقوله (فإذا طهرت) فليحمل عليه وقد تمسك بقوله أو حاملاً من قال بأن طلاق الحامل سني وهم الجمهور. وروي عن أحمد أنه ليس بسني. قوله: (فحسبت من طلاقها) بضم الحاء المهملة من الحسبان. وفي لفظ البخاري: حسبت علي بتطليقة وأخرجه أبو نعيم كذلك وزاد يعني حين طلق امرأته فسأل عمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد تمسك بذلك من قال بأن الطلاق البدعي يقع وهم الجمهور. وذهب الباقر والصادق وابن حزم وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض إلى أنه لا يقع. وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن عليه يعني إبراهيم بن إسماعيل بن علية وهو من فقهاء المعتزلة. قال ابن عبد البر: لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال. قال: وروي مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ وقد أجاب ابن حزم عن قول ابن عمر المذكور بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه ولا حجة في أحد دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وتعقب بأنه مثل قول الصحابة أمرنا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكذا فإنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. قال الحافظ: وعندي أنه لا ينبغي أن يجيء فيه الخلاف الذي في قول الصحابي أمرنا بكذا فإن ذلك محله حيث يكون إطلاع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك ليس صريحاً وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو الآمر بالمراجعة وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسب عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعيداً جداً مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئاً برأيه وهو ينقل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تغيظ من صنعه حيث لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة. واستدل الجمهور أيضاً بما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال هي واحدة. قال في الفتح: وهذا نص في محل النزاع يجب المصير إليه وقد أورده بعض العلماء على أن ابن حزم فأجابه بأن قوله هي واحدة لعله ليس من كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال وقد أجاب ابن القيم عن هذا الحديث بأنه لا يدري أقاله يعني قوله هي واحدة ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذئب أم نافع فلا يجوز أن يضاف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما لا يتيقن أنه من كلامه ولا يخفى أن هذا التجويز لا يدفع الظاهر المتبادر من الرفع ولو فتحنا باب دفع الأدلة بمثل هذا ما سلم لنا حديث فالأولى في الجواب المعارضة لذلك بما سيأتي. ومن حجج الجمهور ما أخرجه الدارقطني أيضاً: (أن عمر قال: يا رسول اللّه أفتحتسب بتلك التطليقة قال: نعم) ورجاله إلى شعبة ثقات كما قال الحافظ وشعبة رواه عن أنس بن سيرين عن ابن عمر واحتج الجمهور أيضاً بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم راجعها فإن الرجعة لا تكون إلا بعد طلاق. وأجاب ابن القيم عن ذلك بأن الرجعة قد وقعت في كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على ثلاثة معان: أحدها بمعنى النكاح قال اللّه تعالى قال الحافظ: وفي هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر على المعنى اللغوي ولكنه لا يخفى أن هذا على فرض دلالته على ذلك لا يصلح للاحتجاج به لأن مجرد فهم ابن عمر لا يكون حجة وقد تقرر أن معنى الرجعة لغة أعم من المعنى الاصطلاحي ولم يثبت أنه ثبت فيها حقيقة شرعية يتعين المصير إليها. ومن حجج القائلين بعدم الوقوع أثر ابن عباس المذكور في الباب ولا حجة لهم في ذلك لأنه قول صحابي ليس بمرفوع ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم وقوع الطلاق البدعي ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ: (طلق عبد اللّه بن عمر امرأته وهي حائض قال عبد اللّه: فردها عليَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يرها شيئاً) قال الحافظ: وإسناد هذه الزيادة على شرط الصحيح وقد صرح ابن القيم وغيره بأن هذا الحديث صحيح لأنه رواه أبو داود عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: (أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً فقال ابن عمر: طلق ابن عمر امرأته حائضاً على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فسأل عمر عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: إن عبد اللّه طلق امرأته وهي حائض قال عبد اللّه: فردها عليَّ ولم يرها شيئاً) الحديث. فهؤلاء رجال ثقات أئمة حفاظ وقد أخرجه أحمد عن روح بن عبادة عن ابن جريج فلم يتفرد به عبد الرزاق عن ابن جريج ولكنه قد أعل هذا الحديث بمخالفة أبي الزبير لسائر الحفاظ. قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة وأحاديثهم على خلاف ما قال أبو الزبير وقال ابن عبد البر: قوله ولم يرها شيئاً منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه ولو صح فمعناه عندي واللّه أعلم ولم يرها شيئاً مستقيماً لكونها لم تكن عن السنة. وقال الخطابي: قال أهل الحديث لم يروي أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا وقد يحتمل أن يكون معناه ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة ماضيًا في الاختيار. وقد حكى البيهقي عن الشافعي نحو ذلك ويجاب بأن أبا الزبير غير مدفوع في الحفظ والعدالة وإنما يخشى من تدليسه فإذا قال سمعت أو حدثني زال ذلك وقد صرح هنا بالسماع وليس في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير حتى يصار إلى الترجيح ويقال قد تخالفه الأكثر بل غاية ما هناك الأمر بالمراجعة على فرض استلزامه لوقوع الطلاق وقد عرفت اندفاع ذلك على أنه لو سلم ذلك الاستلزام لم يصلح لمعارضة النص الصريح أعني ولم يرها شيئاً على أنه يؤيد رواية أبي الزبير ما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عبد اللّه بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ليس ذلك بشيء. وقد روى ابن حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر من طريق عبد الوهاب الثقفي عن عبيد اللّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: لا يعتد بذلك. وهذا إسناد صحيح وروى ابن عبد البر عن الشعبي أنه قال إذا طلق امرأته وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر. وقد روى زيادة أبي الزبير الحميدي في الجمع بين الصحيحين وقد التزم أن لا يذكر فيه إلا ما كان صحيحاً على شرطهما. وقال ابن عبد البر في التمهيد: أنه تابع أبا الزبير على ذلك أربعة عبد اللّه بن عمر ومحمد بن عبد العزيز ابن أبي رواد ويحيى بن سليم وإبراهيم بن أبي حسنة ولا شك أن رواية عدم الاعتداد بتلك الطلقة أرجح من رواية الاعتداد المتقدمة فإذا صرنا إلى الترجيح بناء على تعذر الجمع فرواية عدم الاعتداد أرجح لما سلف ويمكن أن يجمع بما ذكره ابن عبد البر ومن معه كما تقدم. قال في الفتح: وهو متعين وهو أولى من تغليط بعض الثقات وقد رجح ما ذهب إليه من قال بعدم الوقوع بمرجحات منها قوله تعالى
1 - عن ركانة بن عبد اللّه: (أنه طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك فقال: واللّه ما أردت إلا واحدة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: واللّه ما أردت إلا واحدة قال ركانة: واللّه ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب والثالثة في زمن عثمان). - رواه الشافعي وأبو داود والدارقطني وقال: قال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح. - الحديث أخرجه أيضاً الترمذي وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم قال الترمذي: لا يعرف إلا من هذا الوجه وسألت محمداً عنه يعني البخاري فقال فيه اضطراب انتهى. وفي إسناده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد وقيل إنه متروك وذكر الترمذي عن البخاري أنه يضطرب فيه تارة يقال فيه ثلاثاً وتارة قيل واحدة وأصحها أنها طلقها البتة وأن الثلاث ذكرت فيه على المعنى. قال ابن كثير: لكن قد رواه أبو داود من وجه آخر وله طرق أخر فهو حسن إن شاء اللّه. وقال ابن عبد البر في التمهيد: تكلموا في هذا الحديث انتهى. وهو مع ضعفه مضطرب ومعارض أما الاضطراب فكما تقدم وقد أخرج أحمد أنه طلق ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثاً فحزن عليها وروى ابن إسحاق عن ركانة أنه قال: (يا رسول اللّه إني طلقتها ثلاثاً قال: قد علمت أرجعها ثم تلا إذا طلقتم النساء) الآية. أخرجه أبو داود وأما معارضته فبما روى ابن عباس أن طلاق الثلاث كانت واحدة وسيأتي وهو أصح إسناداً وأوضح متناً. وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال: (أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال أيلعب بكتاب اللّه وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول اللّه ألا أقتله) قال ابن كثير: إسناده جيد. وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواته موثقون. وفي الباب عن ابن عباس قال: (طلق أبو ركانة أم ركانة فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: راجع امرأتك فقال: إني طلقتها ثلاثاً قال: قد علمت راجعها) أخرجه أبو داود ورواه أحمد والحاكم وهو معلول بابن إسحاق فإنه في سنده. والحديث يدل على أن من طلق بلفظ البتة وأراد واحدة كانت واحدة وإن أراد ثلاثاً كانت ثلاثاً ورواية ابن عباس التي ذكرناها أنه أعني ركانة طلقها ثلاثاً فأمره صلى اللّه عليه وآله وسلم بمراجعتها يدل على أن من طلق ثلاثاً دفعة كانت في حكم الواحدة وسيأتي الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق. قوله: (فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم واللّه ما أردت إلا واحدة) الخ فيه دليل على أنه لا يقبل قول من طلق زوجته بلفظ البتة ثم زعم أنه أراد واحدة إلا بيمين ومثل هذا كل دعوى يدعيها الزوج راجعة إلى الطلاق إذا كان له فيها نفع. 2- وعن سهل بن سعد قال: (لما لاعن أخو بني عجلان امرأته قال يا رسول اللّه ظلمتها إن أمسكتها هي الطلاق وهي الطلاق وهي الطلاق). رواه أحمد. 3 - وعن الحسن قال: (حدثنا عبد اللّه بن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرءين فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا ابن عمر ما هكذا أمرك اللّه تعالى إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء وقال فأمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فراجعتها ثم قال إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك فقلت يا رسول اللّه أرأيت لو طلقتها ثلاثاً أكان يحل لي أن أراجعها قال لا كانت تبين منك وتكون معصية). رواه الدارقطني. حديث سهل بن سعد هو عند الجماعة إلا الترمذي بلفظ: (فلما فرغا قال عويمر كذبت عليك يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إن أمسكتها فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فكانت سنة المتلاعنين). وسيأتي في كتاب اللعان والغرض من إيراده ههنا أن الثلاث إذا وقعت في موقف واحد وقعت كلها وبانت الزوجة وأجاب القائلون بأنها لا تقع إلا واحدة فقط عن ذلك بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إنما سكت عن ذلك لأن الملاعنة تبين بنفس اللعان فالطلاق الواقع من الزوج بعد ذلك لا محل له فكأنه طلق أجنبية ولا يجب إنكار مثل ذلك فلا يكون السكوت عنه تقريراً. وحديث الحسن في إسناده عطاء الخراساني وهو مختلف فيه وقد وثقه الترمذي وقال النسائي وأبو حاتم: لا بأس به وكذبه سعيد بن المسيب وضعفه غير واحد. وقال البخاري: ليس فيمن روى عنه مالك من يستحق الترك غيره. وقال شعبة: كان نسيًا. وقال ابن حبان: كان من خيار عباد اللّه غير أنه كان كثير الوهم سيء الحفظ يخطئ ولا يدري فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به وأيضاً الزيادة التي هي محل الحجة أعني قوله: (أرأيت لو طلقتها) الخ مما تفرد به عطاء وخالف فيها الحفاظ فإنهم شاركوه في أصل الحديث ولم يذكروا الزيادة وأيضاً في إسنادها شعيب بن زريق الشامي وهو ضعيف. وقد استدل القائلون بأن الثلاث تقع بأحاديث من جملتها هذا الحديث وأجاب عنه القائلون بأنها تقع واحدة فقط بعدم صلاحيته للاحتجاج لما سلف على أن لفظ الثلاث محتمل. 4 - وعن حماد بن زيد قال: (قلت لأيوب هل علمت أحد قال في أمرك بيدك أنها ثلاث إلا الحسن قال: لا ثم قال: اللّهم غفراً إلا ما حدثني قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: ثلاث قال أيوب: فلقيت كثيراً مولى ابن سمرة فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال: نسي). رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد. 5 - وعن زرارة بن ربيعة عن أبيه عن عثمان: (في أمرك بيدك القضاء ما قضت). رواه البخاري في تاريخه. 6 - وعن علي قال: (الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاثاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره). رواه الدارقطني. 7 - وعن ابن عمر: (أنه قال في الخلية والبرية ثلاثاً ثلاثاً). رواه الشافعي. 8 - وعن يونس بن يزيد قال: (سألت ابن شهاب عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه قبل أن يدخل بها فقال أبوه هي طالق ثلاثاً كيف السنة في ذلك فقال أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مولى بني عامر بن لؤي أن محمد بن إياس بن بكر الليثي وكان أبوه شهد بدراً أخبره أن أبا هريرة قال: بانت عنه فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره وأنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال مثل قول أبي هريرة وسأل عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقال مثل قولهما). رواه أبو بكر البرقاني في كتابه المخرج على الصحيحين. 9 - وعن مجاهد قال: (كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أنه طلق امرأته ثلاثاً فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول يا ابن عباس يا ابن عباس وإن اللّه قال رواه أبو داود. 10 - وعن مجاهد عن ابن عباس: (أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة قال: عصيت ربك وفارقت امرأتك لم تتق اللّه فيجعل لك مخرجاً). 11 - وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أن رجلاً طلق امرأته ألفاً قال: يكفيك من ذلك ثلاث وتدع تسعمائة وسبعاً وتسعين). 12 - وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أنه سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال أخطأ السنة وحرمت عليه امرأته). رواهن الدارقطني. وهذا كله يدل على إجماعهم على صحة وقوع الثلاث بالكلمة الواحدة. وقد روى طاوس عن ابن عباس قال: (كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم) رواه أحمد ومسلم. وفي رواية عن طاوس: (أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبي بكر واحدة قال قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) رواه مسلم. وفي رواية: (أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم) رواه أبو داود. حديث حماد بن زيد أخرجه أيضاً النسائي. وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال إنما هو عن أبي هريرة موقوفاً ولم يعرف حديث أبي هريرة مرفوعاً. وقال النسائي: هذا حديث منكر وأما إنكار الشيخ أنه حدث بذلك فإن كان على طريقة الجزم كما وقع في رواية أبي داود بلفظ قال أيوب فقدم علينا كثير فسألته فقال ما حدثت بهذا قط فذكرته لقتادة فقال بلى ولكنه نسي انتهى. فلا شك أنه علة قادحة وإن لم تكن على طريقة الجزم بل عدم معرفة ذلك الحديث وعدم ذكر الجملة والتفصيل بدون تصريح بالإنكار كما في الرواية المذكورة في الباب فليس ذلك مما يعد قادحاً في الحديث وقد بين هذا في علم اصطلاح الحديث وقد استدل بهذا الحديث على أن من قال لامرأته أمرك بيدك كان ذلك ثلاثًا وقد اختلف في قول الرجل لزوجته أمرك بيدك وأمرك إليك هل هو صريح تمليك للطلاق أو كناية فحكى في البحر عن الحنفية والشافعية ومالك أنه صريح فلا يقبل قول الزوج بعد ذلك أنه أراد التوكيل وذهب المؤيد باللّه والهادوية إلى أنه كناية تمليك فيقبل قول الزوج أنه أراد التوكيل. قوله: قال الخلية الخ هذه الألفاظ من ألفاظ الطلاق الصريح وأما كونها بمنزلة إيقاع ثلاث تطليقات فقد تقدم في لفظ البتة ما يدل على أنه بمنزلة الطلاق الثلاث إلا أن يحلف الزوج أنه ما أراد به إلا واحدة فيمكن أن يكون علي رضي اللّه عنه ألحق به بقية الألفاظ المذكورة وأما لفظ الحرام فسيأتي الكلام عليه في باب من حرم زوجته أو أمته من كتاب الظهار. قوله: {فطلقوهن لعدتهن} هذا الأثر إسناده صحيح كما قال صاحب الفتح وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس وذكر نحو الآثار التي عزاها المصنف إلى الدارقطني وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر أنه رفع إليه رجل طلق امرأته ألفاً فقال له عمر: أطلقت امرأتك قال: لا إنما كنت ألعب فعلاه عمر بالدرة وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث. وروى وكيع عن علي رضي اللّه عنه وعثمان نحو ذلك وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسعود أنه قيل له إن رجلاً طلق امرأته البارحة مائة قال: قلتها مرة واحدة قال: نعم قال: تريد أن تبين منك امرأتك قال: نعم قال: هو كما قلت. وأتاه آخر فقال: رجل طلق امرأته عدد النجوم قال: قلتها مرة واحدة قال: نعم قال: تريد أن تبين منك امرأتك قال: نعم قال: هو كما قلت واللّه لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله عنكم. قوله: (أناة) في الصحاح أنه على وزن قناة وفي القاموس والأناة كقناة الحلم والوقار. قوله: (من هناتك) جمع هنَّ كأخَّ وهو الشيء يقول هذا هنك أي شيئك هذا معنى ما في القاموس فكأن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من الأشياء العلمية التي عندك. قوله: (تتابع الناس) بتاءين فوقيتين بعد الألف مثناة تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف. واعلم أنه قد وقع الخلاف في الطلاق الثلاث إذا أوقعت في وقت واحد هل يقع جميعها ويتبع الطلاق الطلاق أم لا فذهب جمهور التابعين وكثير من الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة وطائفة من أهل البيت منهم أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه والناصر والإمام يحيى حكى ذلك عنهم في البحر وحكاه أيضاً عن بعض الإمامية إلى أن الطلاق يتبع الطلاق وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط. وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى ورواية عن علي عليه السلام وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى وعبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه ورواية عن زيد بن علي وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين وقد نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ونقل الفتوى بذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما ونقله ابن المنذري عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار وحكاه ابن مغيث أيضاً في ذلك الكتاب عن علي رضي اللّه عنه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير وذهب بعض الإمامية إلى أنه لا يقع بالطلاق المتتابع شيء لا واحدة ولا أكثر منها وقد حكى ذلك عن بعض التابعين. وروى عن ابن علية وهشام بن الحكم وبه قال أبو عبيدة وبعض أهل الظاهر وسائر من يقول أن الطلاق البدعي لا يقع لأن الثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة منه وعدم وقوع البدعي هو أيضاً مذهب الباقر والصادق والناصر وذهب جماعة من أصحاب ابن عباس وإسحاق بن راهويه أن المطلقة إن كانت مدخولة وقعت الثلاث وإن لم تكن مدخولة فواحدة. استدل القائلون بأن الطلاق يتبع الطلاق بأدلة منها قوله تعالى وقال الكرماني: إن التسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة وتعقب بأن التسريح في الآية إنما هو بعد إيقاع الثنتين فلا يتناول إيقاع الثلاث دفعة. وقد قيل إن هذه الآية من أدلة عدم التتابع لأن ظاهرها أن الطلاق المشروع لا يكون بالثلاث دفعة بل على الترتيب المذكور وهذا أظهر واستدلوا أيضاً بظواهر سائر الآيات القرآنية نحو قوله تعالى: واستدل القائلون بأنه لا يقع من المتعدد إلا واحدة بما وقع في حديث ابن عباس عن ركانة: (أنه طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كيف طلقتها فقال ثلاثاً في مجلس واحد فقال له صلى اللّه عليه وآله وسلم: إنما تلك واحدة فارتجعها) أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه وأجيب عن ذلك بأجوبة منها أن في إسناده محمد بن إسحاق ورد بأنهم قد احتجوا في غير واحد من الأحكام بمثل هذا الإسناد ومنها معارضته لفتوى ابن عباس المذكورة في الباب ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه ومنها أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما تقدم ويمكن أن يكون من روى ثلاثاً حمل البتة على معنى الثلاث وفيه مخالفة للظاهر والحديث نص في محل النزاع. واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس المذكور في الباب أن الطلاق كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى آخره وقد أجيب عنه بأجوبة منها ما نقله المصنف رحمه اللّه في هذا الكتاب بعد إخراجه له ولفظه وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعض التابعين إلى ظاهره في حق من لم يدخل بها كما دلت عليه رواية أبي داود وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع فكان الناس في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغائب الفضيلة والاختيار ولم يظهر فيهم خب ولا خداع وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها وقد أشار إليه بقوله أن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. وقال أحمد بن حنبل: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قال طاوس سعيد بن جبير ومجاهد ونافع عن ابن عباس بخلافه وقال أبو داود في سننه: صار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد اللّه بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثاً فكلهم قال لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره انتهى كلام المصنف. وقوله وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق الخ هذا البعض الذي أشار إليه هو ابن سريج وقد ارتضى هذا الجواب القرطبي وقال النووي: إنه أصح الأجوبة ولا يخفى أن من جاء بلفظ يحتمل التأكيد وادعى أنه نواه يصدق في دعواه ولو في آخر الدهر فكيف بزمن خير القرون ومن يليهم وإن جاء بلفظ لا يحتمل التأكيد لم يصدق إذا ادعى التأكيد من غير فرق بين عصر وعصر ويجاب عن كلام أحمد المذكور بأن المخالفين لطاوس من أصحاب ابن عباس إنما نقلوا عن ابن عباس رأيه وطاوس نقل عنه روايته فلا مخالفة وأما ما قاله ابن المنذر من أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئاً ويفتي بخلافه فيجاب عنه بأن الاحتمالات المسوغة لترك الرواية والعدول إلى الرأي كثيرة منها النسيان ومنها قيام دليل عند الراوي لم يبلغنا ونحن متعبدون بما بلغنا دون ما لم يبلغ. وبمثل هذا يجاب عن كلام أبي داود المذكور. ومن الأجوبة من حديث ابن عباس المذكور ما نقله البيهقي عن الشافعي أنه قال يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئاً نسخ ويجاب بأن النسخ إن كان بدليل من كتاب أو سنة فما هو وإن كان بالإجماع فأين هو على أنه يبعد أن يستمر الناس أيام أبي بكر وبعض أيام عمر على أمر منسوخ وإن كان الناسخ قول عمر المذكور فحاشاه أن ينسخ سنة ثابتة بمحض رأيه وحاشا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يجيبوه إلى ذلك. ومن الأجوبة دعوى الاضطراب كما زعمه القرطبي في المفهم وهو زعم فاسد لا وجه له. ومنها ما قاله ابن العربي أن هذا حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على الإجماع ويقال أين الإجماع الذي جعلته معارضاً للسنة الصحيحة. ومنها أنه ليس في سياق حديث ابن عباس أن ذلك كان يبلغ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى يقرره والحجة إنما هي في ذلك وتعقب بأن قول الصحابة كنا نفعل كذا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في حكم المرفوع على ما هو الراجح وقد علمتم بمثل هذا في كثير من المسائل الشرعية والحاصل أن القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف والحق أحق بالإتباع فإن كانت تلك المحاماة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تؤثر على السنة المطهرة وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم أي مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى. واحتج القائلون بأنه لا يقع شيء لا واحدة ولا أكثر منها بقوله تعالى
|